أدب المجالسة والكلام
عندما تجلس مع قوم ، بعد الاستئذان والدخول ـ فليكن في جلوسك وفي زيك ، وفي كل ما يرتسم على وجهك ، أو يتحرك به جسدك شيء كثير من التواضع والاحتشام ، فلا يقدر الإنسان في النهاية إلا على ما فيه من تواضع وحشمة تمازجها وتبطنها الصلابة والمحبة والقوة . فالمجالسة والكلام شراكة وعقد بينك وبين الآخر ، أي في النهاية بينك وبين نفسك ، فكما أنك لست أبدا ، في أي حال من أحوالك ، وحيدا مع ذاتك ، إنما عليك فيها جميعا شاهد ورقيب ، كذلك فإن الآخر الذي تجالسه وتكلمه وتحدثه إنما هو نفسك الأخرى ، أو بالحري نفسك ذاتها ، وهو عليك رقيب وشاهد باسم مولاك ، أو باسم الإنسانية التي يمثلها هذا الشخص الآخر .
فالمجالسة والمحادثة تمثل وتجل لمعاني الإنسانية فيما بينك وبين جليسك . فكما تحب أن تفيد من حديث الآخرين فيجب أن يفيد الآخرون من مجالستك وحديثك ، أي مما يتجلى في هذا الحديث وما يتشخص في هذه المجالسة من معاني لطفك وأنسك ومحبتك ، ومن عدلك ، وكلها من مجال الإنسانية التي ترتفع إليها ويرتفع إليها الآخر ، ضيفك وجليسك ، عندما تريدان حقا أن يفهم أحدكما الآخر فلا يكون حديثك ثرثرة أو قالة أو اغتيابا ،أو سردا لبعض التوافه التي ليس لها علاقة بجوهر ما تبتغيه من الزيارة أو قصد الإشارة .
واعلم أن الضيف أو المضيف ، إن كان الآخر أحدهما ، هو مقدس على ما قدر ما ترى في نفسك مثل هذا التقدير والإحاطة والاحترام والقداسة ، وإن الحديث في النهاية هو حديث القلوب والأرواح والعقول الصافية النيرة التي تتلاقى وتتفاهم وتنصهر في وحدة فهمها . وهل نفهم الآخرين إن لم نرتفع إلى هذه الوحدة الإنسانية الأصيلة التي تضمنا ، والتي انبثقنا منها منذ البداية ؟
فليكن جليسك أنيسك ، وليتجل هذا الأنس في استدراك معنى الصمت ، فالناس يتفاهمون ويتعارفون ويتقاربون من خلال فترات صمتهم بين الأحاديث ، أكثر من تفاهمهم من خلال الأحاديث ذاتها ، وهل يدرك الإنسان معنى القول إلا بعد أن يكون الآخر قد فرغ من تلاوته ، وغطس معناه في الصمت العقلي من حيث انبثق الكلام عند الآخر الذي نحادثه؟
لذا كان لمعنى الضيافة تقدير وتكريس عند جميع الأديان والأقوام المتحضرة حقا ، وذا أوصي بالضيف والمضيف ، وأعطي للضيافة معنى روحي رفيع ، فمن تجاوزه أو انحرف عنه ، ساء أدبه مع الآخرين ومع نفسه .
ودع للآخرين مجال الكلام فإنهم كثيرا ما تكون لهم حاجة بأن يتحدثوا إليك طويلا ، وقد يكون صمتك أفضل تفهم لما يطلبونه منك من استيعاب لمشاكلهم ، وإدراك لمتاعبهم ، ودواء لآلامهم التي يغطيها الحديث ولا يفشي عنها . ومن يرد أن يتعلم حقيقة الحديث وأسلوبه الصواب ، فليبدأ بتعلم نهج الصمت وقواعده السليمة .
ونظرة منك أحيانا تكون ، وفيها عاطفة القلب وانتباه العقل ، أبلغ من أي جواب. وعليك واجب ، في الحديث ، بأن ترفعه عن التوافه ولا تنزل به مع الآخر إلى مستوى السفاسف . ولا تجادل كثيرا ، فالجدل لا يقنع ، ومعظم الأحيان يظل المجادلان على رأيهما الأول ، لأنهما يكونان قد وضعا شيئا كثيرا من شخصيتهما الظاهرة ، أي من أنانيتهما ، في الموقف الذي يدعيان صوابه .
ويكون من الفائدة ، معظم الأحيان ، أن يقول الرجل كل ما يريد أن يقوله في أسبابه ونتائجه ومبرراته وأعذاره ، كمن يحاول أن يقنع نفسه أو يبرر عمله ، ويكون أفضل جواب على ذلك هو الإنصات له ، ثم لفت نظره ، بروح من الإخلاص واللطف والمحبة باقتصار ، إلى بعض ما يكتنفه هذا الجدل أو هذا الحديث من أخطاء في ارتباطه ، وأن يطلب منه التفكير في ذلك في كل حال لكي لا يشعر بأنه على خطأ ، وأن نحاول أن نجعله هو يدرك خطأه . فمعظم الناس أنانيون يجب أن نراعي وضعهم ، فنستدرج الشخص ليتخلى عن أنانيته ، ولو إلى حين ، على ضوء ما يستشعره في قلبه ويستضيء به عقله .
ويجب أن نتوخى دائما الحقيقة في ما نقوله ، ولكن ليس علينا واجب قول الحقيقة بكاملها ، وأحيانا يجب أن نكتمها عن الآخر ، لأنه لا يكون مهيأ لتقبلها والانتفاع بها ، كمن يصارع ثورا هائجا . والأنانية أشبه ما تكون بهذا الثور الهائج ، فهي لا توجه إلا استئناسا ومداورة ، فلا تلقى دفاعا معاكسا ، فتضعف وتسقط من تلقاء نفسها . فالجدل الأناني ، عقد بينك وبين الآخر ، فحذار أن تدخل في هذا العقد .